فصل: تفسير الآية رقم (127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (126):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً} [126].
{وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} جملة مبتدأة، سبقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات، له تعالى خلقاً وملكاً، لا يخرج عن ملكوته شيء منها، فيجازي كلاًّ بموجب أعماله خيراً وشرّاً.
وقيل: لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام.
وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية.
وقيل: لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة، بمحض مشيئته تعالى، أي: له تعالى ما فيهما جميعاً، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء،، أفاده أبو السعود.
{وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍٍ مّحِيطاً} يعني عالماً عِلْمَ إحاطة، لا تخفى عليه خافية من عباده: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [يونس: 61].

.تفسير الآية رقم (127):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاء الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} [127].
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاء} أي: ويسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم.
{قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} ذكروا في {ما} وجوهاً: المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة، أي: والمتلوّ في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً، أو بالعطف على ضميره في: {يُفْتِيكُمْ} وساغ، لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور، وذلك المتلوّ في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء}.
قال الرازي: وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم، ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة، ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاءً من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا، جاز أيضاً أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.
قال أبو السعود: وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامِهَا، وفي الكتاب إما متعلق بـ: {يتلى} أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه، أي: يتلى كائناً فيه: {فِي يَتَامَى النّسَاء} متعلق بـ: {يتلى} أي: ما يتلى عليكم في شأنهن، وهذه الإضافة بمعنى {من} لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: النساء اليتامى.
{الّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ} أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره.
{وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ} روى البخاريّ ومسلم عن عائشة- رَضِي اللّهُ عَنْهَا- قالت، في هذه الآية: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْيَتِيمَةُ، هُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا، فَأَشْرَكَتْهُ في مَالِهِ حَتَّى في الْعِذْقِ، فَيَرْغَبُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلاً، فَيَشْرَكُهُ في مَالِهِ بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
وعنها أيضاً قالت: وقول الله عز وجل: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ} رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عن يَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ في حَجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا في مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ مِنْ، أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.
وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة، وأن الجار المقدّر مع {أن} هنا هو عن، وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين، أي: تقدير عن وفي فقال نزلت في المعدمة والغنية.
قال الحافظ ابن حجر: والمرويّ عن عائشة أوضح، في أن الآية الأولى، أي: التي في أول السورة، نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة.
قال ابن كثير: وَالْمَقْصُود أَنَّ الرَّجُل إِذَا كَانَ فِي حِجْره يَتِيمَة يَحِلّ لَهُ تَزْوِجهَا، فَتَارَة يَرْغَب فِي أَنْ يَتَزَوَّجهَا، فَأَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُمْهِرهَا، أُسْوَة أَمْثَالهَا مِنْ النِّسَاء، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل فَلْيَعْدِلْ إِلَى غَيْرهَا مِنْ النِّسَاء، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَة الْأُولَى الَّتِي فِي أَوَّل السُّورَة، وَتَارَة لَا يَكُون له فِيهَا رَغْبَة، لِدَمَامَتِهَا عِنْده، أَوْ فِي نَفْس الْأَمْر، فَنَهَاهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْضُلهَا عَنْ الْأَزْوَاج خَشْيَة أَنْ يُشْرِكُوهُ فِي مَاله الَّذِي بَيْنه وَبَيْنهَا، كَمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْآيَة، وَهِيَ قَوْله: {فِي يَتَامَى النِّسَاء} الْآيَة: كَانَ الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة تَكُون عِنْده الْيَتِيمَة فَيُلْقِي عَلَيْهَا ثَوْبه، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِر أَحَد أَنْ يَتَزَوَّجهَا أَبَداً، فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَة وَهَوِيَهَا تَزَوَّجَهَا وَأَكَلَ مَالهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَة مَنَعَهَا الرِّجَال أَبَداً حَتَّى تَمُوت، فَإِذَا مَاتَتْ وَرِثَهَا، فَحَرَّمَ اللَّه ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ.
تنبيه:
ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدرّ مع {أن} هو عن وفي، وأن كلاًّ منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين.
قال الخفاجيّ: مثله لا يعدّ لبساً بل إجمالاً، كما ذكره بعض المحققين. انتهى.
قلت: وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد، والإجمال أن لا تتضح الدلالة، وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أموراً متعددة، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:
والفرق بين اللِّبس والإجمال ** مما به يُهتم في الأقوال

فاللفظ، إن أفهم غير القصد ** فاحكم على استعماله بالرد

لأنه اللِّبس، وأما المجمل ** فربما يفهمه من يعقل

وذاك أن لا تفهم المخالفا ** ولا سواه بل تصير واقفا

وحكمه القبول في الموارد ** فحفظه نظماً أعظم الفوائد

{وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} عطف {على يتامى النساء}، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ} إلخ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم، كما لا يورثون الرجال القوّام.
قال ابن عباس، في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: {لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فنهى الله عن ذلك، وبيّن لكل ذي سهم سهمه.
فقال: {لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ} صغيراً أو كبيراً، وكذا قال سعيد بن جُبير.
{وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} بالجر، عطف على ما قبله، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر.
قال سعيد بن جبير: المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال، فأنكحها واستأثر بها، والخطاب للولاة، أو للأولياء أو الأوصياء.
تنبيه:
استنبط من آية أحكام:
الأول: جواز نكاح الصغيرة، لأن اليتيم: الصغير الذي لم يبلغ، وفي الحديث عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «لا يُتْمَ بَعْدَ احتِلام»، رواه أبو داود.
وعن الأصم: أراد البوالغ قبل التزوج، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم، والأول أظهر، لأنه الحقيقة، قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة، وبدليل قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إِذنها، وإن أبت فلا جواز عليها»، رواه أهل السنن، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة، وقد ورد قول الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى ** النسوة الأرامل اليتامى

فسمى البالغات يتامى، لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم، كقولهم: درة يتيمة، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء:
الأولى: جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.
الثاني: للناصر والشافعي: لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.
والثالث: لا يجوز ذلك إلا للأب فقط، وهذا قول الأوزاعي، ومروي عن القاسم، دليل الأولين، ما اقتضاه قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وهي نزلت في شأن اليتيمة بنكحها وليها ولا يقسط لها في المهر، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء} واليتم الحقيقيّ مع الصغر، وغيره مجاز، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح، ابن العم، فإذا صح فيه صح، وحجة القول الثاني قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «تُستأمر اليتيمة»، الحديث المتقدم، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ.
وروى الإمام أحمد والدارقطنيّ: أن قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍٍ زوج ابنة أخيه، وكان وصيها، ممن أبته، فرفع ذلك إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فقال: «هِيَ يَتِيمَةٌ وَلاَ تُنْكَحُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا»، كذا ذكره بعض مفسري الزيدية.
وتخريج الأحاديث من زيادتي، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل، إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وفي حديث: «لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ»: ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة، بكراً كانت أو ثيباً، صغيرةً أو كبيرةً. انتهى.
قال الترمذيّ في جامعه: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْيَتِيمَةِ حَتَّى تَبْلُغَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا بَلَغَتِ الْيَتِيمَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَزُوِّجَتْ فَرَضِيَتْ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلاَ خِيَارَ لَهَا إِذَا أَدْرَكَتْ. وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِهَا وَهِىَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ. انتهى.
الحكم الثاني: أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح، لقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ} وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد، أن أُمِّ حَكِيمٍٍ بِنْتِ قَارِظٍٍ قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيّهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إليّ؟ فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك، قال ابن أبي ذئب: فجاز نكاحه.
وروى عبد الرزاق ووكيع والبيهقيّ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليّها، فأمر أبعد منه، فزوجه.
وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلاناً خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته، ولتأمر رجلاً من عشيرتها.
أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاريّ في صحيحه تعليقاً في باب إذا كان الولي هو الخاطب أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى وليّ آخر.
قال ابن المنير: ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معاً، ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد.
قال الحافظ ابن حجر: لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أسر الوليّ غيره أن يزوجه- ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.
ثم قال: وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه: يزوج الوليّ نفسه: ووافقهم أبو ثور.
وعن مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار، لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج.
وقال الشافعيّ: يزوجهما السلطان أو وليّ آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر وداود، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحاً، كما لا يبيع من نفسه. انتهى.
الحكم الثالث: أنه يجوز للأولياء التصرف في المال، لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك.
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍٍ} لاسيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم.
{فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجزيكم به.

.تفسير الآية رقم (128):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [128].
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا} أي: زوجها.
{نُشُوزا}: أي: تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها.
{أَوْ إِعْرَاضاً} أي: تطليقاً، أو أن يقلّ محادثتها ومجالستها، كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها.
{فَلاَ جُنَاْحَ} أي: لا إثم: {عَلَيْهِمَا} حينئذ.
{أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} بحطِّ شيء من المهر أو النفقة: أو هبة شيء من مالها أو قَسْمِها، طلباً لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها.
قال في الإكليل: الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القَسْم وغيره، استدل به من أجاز لها بيع ذلك.
{وَالصّلْحُ خَيْرٌ} أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.
قال ابن كثير: بَلْ الطَّلَاق بَغِيض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَض الْحَلَال إِلَى اللَّه الطَّلَاق».
قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة، لقوله تعالى: {وَالصّلْحُ خَيْرٌ} أي: من الفرقة وسوء العشرة، أو خير من الخصومة، أو خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور، وقد كان من كرم أخلاقه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، وعنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «إنَّه مِنْ أبَرَّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلُ وُدِّ أبيه»، وهذا فيه صبر، وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل، والصلح فيه من أنواع الترغيب.
روى عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد»، وعن أنس: «من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة». انتهى.
وفي الإكليل قوله تعالى: {وَالصّلْحُ خَيْرٌ} عام في كل صلح، أصل فيه.
وفي الحديث: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إلاَّ صُلْحاً، أحلّ حراماً، أو حرَّمَ حلالاً».
واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشّحّ} بيان لما جبل عليه الإِنسَاْن، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبداً، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز، والإعراض، وحقوقها من الرجل، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة وللحث على الصلح، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبليّة بغيرها استمالة، مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قِبَلِهَا بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.
{وَإِن تُحْسِنُواْ} في العشرة.
{وَتَتّقُواْ} النشوز والإعراض ونقص الحق.
{فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من تحمل المشاق في ذلك.
{خَبِيراً} فيجازيكم ويثيبكم، قال أبو السعود: وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ: التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه- من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة، ما لا يخفى.
وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها.
قال ابن كثير: ولا أعلم في ذلك خلافاً.
وفي البخاريّ عن عائشة، في هذه الآية قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ المُسنة، لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍٍ مِنْهَا، يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي في حِلٍٍّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسأله عن قول الله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} الآية، قَالَ عَلِيّ: يَكُون الرَّجُل عِنْده الْمَرْأَة، فَتَنْبُو عَيْنَهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتهَا، أَوْ كِبَرهَا، أَوْ سُوء خُلُقهَا، أَوْ قُذَذهَا، فَتكَرِهَ فِرَاقه، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرهَا شَيْئاً حَلَّ لَهُ، وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أَيَّامهَا فَلَا حَرَج.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ واِبْن جَرِير.
وَرَوَى اِبْن جَرِير أيضاً عن عمر رَضِي اللّهُ عَنْهُ أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، وروى سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ عُرْوَة قَالَ: أَنْزَلَ فِي سَوْدَة وَأَشْبَاههَا: {وَإِنْ اِمْرَأَة} الآية، وَذَلِكَ أَنَّ سَوْدَة كَانَتْ اِمْرَأَة قَدْ أَسَنَّتْ، فَفَرَقَتْ أَنْ يُفَارِقهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَنَّتْ بِمَكَانِهَا مِنْهُ وَعَرَفَتْ مِنْ حُبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَة وَمَنْزِلَتهَا مِنْهُ، فَوَهَبَتْ يَوْمهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى نحوه أبو داود الطيالسي والترمذيّ عن ابن عباس.
وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: يا ابن أختي! كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لا يُفضِّل بعضَنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مَسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، حين أَسَنَّت وفَرَقَتْ أن يُفارقها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: يا رسول الله! يومي هذا لعائشة، فَقَبِلَ ذلك رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم منها، قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى، وفي أشباهها، أراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} الآية.
وكذلك رواه أبو داود، وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعائشة، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِها بِيَوْمِ سَوْدَة.
ولا يخفى أن قبوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذلك من سودة، إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام.
وقول بعض المفسرين في هذه القصة: أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان عزم على طلاق سودة- باطل وسوء فهم من القصة، إذ لم يُرْوَ عزمه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على ذلك، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد، غاية ما روي في السنن، أن سودة خشيت الفراق لكبرها، وتوهمته، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاماً منوعة، فتقدمت للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بقبول ليلتها لعائشة، فقبل منها.
وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بعث إليها بطلاقها، ثم ناشدته فراجعها- فهو زيادة عن إرساله وغرابته، كما قاله فيه نكارة لا تخفى.
لطيفة:
حكى الزمخشري هنا، أن عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ الخارجيّ كان من أدمّ بني آدم، وامرأتهُ من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوماً، ثم تابعت الحمد لله، فقال: مالكِ؟ قال: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرتَ، ورزقت مثلك فصبرتُ، وقد وعد الله الجنة، عباده الشاكرين والصابرين. انتهى.
قلت: عِمْرَان المذكور ممن خرج له البخاريّ في صحيحه، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته؟ فقالت: أوجز أم أطنب؟ فقيل: أوجزي، فقالت: ما قدمت له طعاماً بالنهار، وما مهدت له فراشاً بالليل، تعني أنه كان صواماً قواماً رحمه الله تعالى.